يولد الإنسان خالي الصفحة. لا يحمل في ذاكرته شيئًا، ولا يعرفه أحد. لكن ما إن يخطو في هذه الحياة، حتى تبدأ صورته في أعين الناس بالتكوّن، لا بما يقوله، بل بما يفعله. هذه الصورة، التي نسميها "السمعة"، ليست شعارًا أو سيرة ذاتية، بل هي حصيلة كل موقف، كل اختيار، كل استجابة تحت الضغط، كل صدق، وكل مرة قلت "لا" عندما كان بإمكانك أن تتنازل.
أن تبني سمعة جيدة، هو أن تنسج علاقة غير مرئية بينك وبين من حولك، قوامها الثقة. أن يشعر الآخرون أن اسمك يعني شيئًا نقيًّا، محترمًا، يمكن الاعتماد عليه. أن يُقال عنك في غيابك: "هو لا يكذب. هو لا يخذل. هو أهلٌ للكلمة." لكن المشكلة أن هذا البناء لا يحدث بين ليلة وضحاها، ولا بكلام جميل. إنه بناء دقيق، متدرج، يشبه نحت التمثال من الصخر: يحتاج صبرًا، وثباتًا، واستقامة.
وقد تستغرق سنوات، بل عقودًا، في إثبات ذاتك، وتأكيد قيمك، وترسيخ مبادئك في كل بيئة تدخلها: العمل، العائلة، المجتمع. وقد تواجه شكوكًا، ومواقف محرجة، وخيارات صعبة، تقف فيها وحدك لأنك اخترت الطريق الأصعب… طريق النزاهة. ومع الوقت، تبدأ صورتك بالاتساع. يُشار إليك باحترام. تُؤتَمن على المهمات. تُمنَح الفرص. لا لأنك طالبتها، بل لأن الناس شعروا أنك تستحقها.
لكن، وهنا تأتي المأساة، يمكن لكل هذا الجهد أن ينهار في لحظة واحدة. بخطأ صغير، بكلمة متهورة، بخيانة عابرة، بتصرف أناني، بردة فعل غير محسوبة. لأن الثقة لا تُقاس بعدد السنوات التي حافظت فيها عليها، بل بمدى هشاشتها أمام أول اختبار حقيقي. والناس لا ينسون بسهولة… ليس لأنهم قساة، بل لأنهم يشعرون بالأذى حين يخيب ظنهم بمن وضعوا فيه كل الثقة.
المؤلم أن هذه اللحظة لا تأتي عادة من الغرباء، بل من شخص لطالما رأوه مثالًا يُحتذى. ومن هنا، فإن السقوط يكون صاخبًا، جارحًا، لأن خيانة الصورة التي رسمها الآخرون لك، أصعب من خيانة الفعل نفسه.
خذ مثلًا موظفًا أفنى 10 سنوات من حياته وهو يبني سمعته في شركة ما، ملتزمًا، صادقًا، متعاونًا. ثم وقع في لحظة ضعف، خان الأمانة، أو اختلس مالًا، أو حتى تفوّه بكلمة جارحة أمام الفريق. كل ما بُني في 10 سنوات سيتداعى. لن يتذكروه كالمجتهد الدؤوب، بل كمن "أخفى شيئًا في الداخل". لماذا؟ لأن الإنسان بطبيعته لا يُصدّق الطيبة نصف صدّق، لكنه يُصدّق السقوط دفعة واحدة.
وفي عصرنا الحديث، حيث وسائل التواصل تنشر المعلومة كالنار، أصبحت السمعة معرضة للانكشاف أكثر من أي وقت مضى. مقطع واحد، صورة واحدة، تسريب واحد، يمكن أن يُسقط نجمًا. أصبح الوعي بسمعتك لا يقتصر على دوائر صغيرة، بل على جمهور رقمي واسع، يحكم بسرعة، ويتأثر بمشهد أكثر من ألف سيرة.
وهنا، لا بد من أن نفهم أن الحفاظ على السمعة لا يعني العيش في خوف دائم من الخطأ. بل هو فن العيش بصدق، واتساق داخلي. أن تكون كما تقول، أن تتصرف كما تؤمن، أن تُراجع نفسك حين تخطئ، وتعتذر حين تخذل، وتُصلح قبل أن تُكشَف. لأن الناس لا تتوقع منك الكمال، بل تتوقع منك الصدق في السقوط كما في الصعود.
السمعة لا تُصنع من الإعجاب المؤقت، بل من الإيمان العميق بأن الخير ليس خيارًا، بل نمط حياة. وهي ليست مجرد وسيلة لكسب الفرص، بل غايتها الأسمى أن تكون إنسانًا يستحق أن يُؤتمن، ولو لم يكن أحد يراقبه.
ولعل أعظم دليل على متانة سمعتك، هو كيف يدافع عنك الآخرون في غيابك، حين لا تملك أن تُبرّر، أو تشرح، أو تتصدى. حين يتحدث عنك الناس بصدق: "لا يمكن أن يفعلها. نعرفه." هذا هو رأس مالك الحقيقي.
مرحبًا بك في منطقة التعليقات! كن مهذبًا وابقَ في صلب الموضوع. قم بزيارة الشروط والأحكام الخاصة بنا واستمتع معنا!
لم تتم إضافة أي تعليقات بعد، كن الأول وابدأ المحادثة!