في عالم المؤسسات، اعتدنا أن نُسلّط الضوء على من يقفون في الأعلى: المديرون التنفيذيون، أصحاب القرار، وأصحاب الرؤى الاستراتيجية بعيدة المدى. لكن ما يغيب عن الأضواء في كثير من الأحيان هو الأثر العميق الذي تتركه القيادة على من هم في قاعدة الهرم الوظيفي. هؤلاء الذين يعملون بصمت، وينهضون كل صباح ليُبقي كل شيء في المؤسسة قائمًا، هم في الحقيقة الأساس الذي يرتكز عليه النجاح، أو ينهار فوقه الفشل.
القيادة الجيدة ليست مجرد توجيه، بل بناء علاقة قائمة على الاحترام والاهتمام الحقيقي. حين يشعر الموظف البسيط أن صوته مسموع، وأن خطأه ليس نهاية العالم بل فرصة للتعلّم، يتحول العمل من عبء إلى مساحة للنمو. القائد الجيد يُشعر الجميع بأهميتهم، لا بالكلمات وحدها، بل بالتصرفات اليومية: نظرة التقدير، سؤال الاهتمام، الإنصات الذي لا يُقلل من الشأن. وفي ظل هذه البيئة، ينمو الموظف مهما كان موقعه، لأن الشعور بالثقة هو أول خطوة نحو الإنجاز الحقيقي.
أما في المؤسسات التي تسود فيها قيادة سيئة، فإن الروح تنهار قبل الأرقام. الموظف هناك لا يشعر بالأمان، ولا يرى أي جدوى من المحاولة. كل فكرة جديدة تصبح خطرًا، وكل مبادرة تُقابل بالريبة. الخوف يحكم لغة الجسد، والصمت يصبح وسيلة دفاع. ومع الوقت، يبرد الحماس، وتبدأ "الاستقالة الداخلية" التي لا تظهر في التقارير، لكنها تقتل الإنجاز بهدوء. إنها بيئة تُطارد فيها الأخطاء أكثر مما تُكافأ فيها المحاولات.
ما لا تدركه بعض القيادات هو أن الأثر الحقيقي لا يظهر فورًا، ولا يُقاس دائمًا بالأرقام الفصلية. بل يظهر في روح الفريق، في مستوى المبادرة، وفي عدد الموظفين الذين يختارون البقاء لأنهم يريدون، لا لأنهم مضطرون. الموظف في بيئة قيادة سيئة قد يستمر، لكنه لا ينتمي. أما في بيئة قيادة جيدة، فهو لا يكتفي بالبقاء، بل يزدهر، ويضيف من ذاته دون أن يُطلب منه.
القيادة الحقيقية لا تُقاس بعدد الاجتماعات أو بتقارير الأداء، بل بالأثر اليومي الذي تتركه في النفوس. كيف تتحدث؟ كيف تنظر؟ كيف تُصغي؟ كل تصرّف يحمل رسالة. والموظف البسيط يلتقط هذه الرسائل جيدًا، حتى لو لم يقل شيئًا. القيادة الناجحة هي تلك التي تفهم أن المؤسسة القوية لا تُبنى من الأعلى فقط، بل من القاعدة التي يعمل فيها من لا يملكون القرار، لكنهم يملكون القدرة على تغيير النتيجة.
الموظفون في المستويات الدنيا لا يملكون أدوات الاعتراض، لكنهم يملكون حسًّا عاليًا بالعدل والانتماء. هم لا يطلبون امتيازات، بل بيئة تحترمهم. والقائد هو من يختار: إما أن يُنير لهم طريقًا يجعلهم يتوهجون، أو أن يُطفئ فيهم الشغف بصمت قاتل. في النهاية، المؤسسة التي تُنصت للذين في الأسفل، هي وحدها التي تبني قمة لا تسقط.
مرحبًا بك في منطقة التعليقات! كن مهذبًا وابقَ في صلب الموضوع. قم بزيارة الشروط والأحكام الخاصة بنا واستمتع معنا!
لم تتم إضافة أي تعليقات بعد، كن الأول وابدأ المحادثة!