ليس كل وداع يُقال بصوت مسموع.
في كثير من الأحيان، لا يأتي الرفض من الناس بشكل مباشر، ولا تُغلق الأبواب بصرامة أمامنا. بل يحدث الانسحاب أحيانًا بهدوءٍ قاتل… خطوات ناعمة تتراجع، دون ضجيج، لكن تُخلف وراءها فراغًا يصعب ملؤه.
لا يُقال لنا صراحة: "لقد تعبت منك"، أو "وجودك يؤذيني"، أو "لم أعد أطيق الحديث معك". بل نجد أنفسنا فجأة وسط عزلة لم نخترها، نحيط أنفسنا بوجوه باردة ونظرات صامتة. وهنا يراودنا السؤال القاسي الذي لا مهرب منه:
"هل أنا السبب؟"
ربما لا ندرك ذلك في البداية، لكن الحقيقة أن بعض تصرفاتنا اليومية، وإن بدت لنا عادية أو صادرة عن نية طيبة، قد تُرهق من حولنا. لا لأننا أشخاص سيئون، بل لأننا ببساطة لم نعتد أن نُراجع أنفسنا. لم نتعلم أن ننتبه لما يتركه حضورنا من أثر في نفوس الآخرين.
نحن نعرف جيدًا ما نشعر به، لكننا لا نعرف ما يشعر به من يُجالسنا. نُبرر سلوكنا، نقول "هذه شخصيتي"، نتمسك بعفويتنا أو حساسيتنا أو رغبتنا في الحديث… لكننا نغفل عن ملامح الإنهاك في أعين من أمامنا، لا نسمع صوت التنهيدة التي يطلقونها في صمت، ولا نلاحظ تلك المسافة التي بدأت تكبر دون أن يُقال شيء.
ربما تتحدث كثيرًا عن نفسك، ليس لأنك مغرور، بل لأنك تحتاج لأن يسمعك أحد، وتنسى أن الآخر قد يكون بحاجة لأن يُصغي له أحد.
ربما تُكثر من الشكوى لأنك موجوع، ولا تدرك أن الطرف المقابل يُحاول حمل وجعك بينما هو مثقل بألمه.
وربما تُنتقد بنية الإصلاح، وتظن أن صراحتك ضرورية، بينما هي تستنزف طاقة العلاقة يومًا بعد يوم.
وربما تحضر في وقت حاجتك وتغيب بعد أن تنال مرادك، دون أن تنتبه أن من أمامك شعر بأنه مجرد وسيلة… لا أكثر.
المشكلة أن الناس لا تُعاتب إلى الأبد. هناك من يصبر، يتحمّل، يحاول… ثم ينسحب. لا ضجيج، لا عتاب، لا لوم، فقط غياب يشبه الحزن.
وهنا، تصبح لحظة الصدق مع النفس ضرورة لا رفاهية.
ليس لنُحمّل أنفسنا الذنب ونجلدها، بل لنفهمها، لننضج، لنتغير… ليس لإرضاء الجميع، بل لنكون نسخة أفضل من أنفسنا.
أن تراجع ذاتك لا يعني أنك مخطئ. بل أنك ناضج بما يكفي لتُدرك أن وجودك في حياة الآخرين إما أن يُنعشهم… أو يُتعبهم.
المطلوب ليس أن تصبح مثاليًا، ولا أن تُجامل على حساب حقيقتك، بل أن تكون متزنًا، واضحًا، لا تُثقل حضورك على أحد، ولا تترك وراءك أثرًا مُنهكًا أو ذكرى جارحة.
العلاقات لا تنهار فجأة، بل تنزف بصمت.
والناس لا يبتعدون دومًا لأنهم تغيّروا، بل لأنك لم تلتفت إلى محاولاتهم التي كانت تقول، دون كلمات:
"لقد تعبنا…"
فإن لاحظت أن من حولك بدأ يتراجع، أن الدوائر تضيق، وأن الحديث معك لم يعد مُحببًا كما كان…
قف. لا لتُعاتب، بل لتفهم.
واسأل نفسك:
"هل كنت سبب الراحة؟ أم عبئًا ثقيلاً اضطروا إلى الانسحاب منه بأكثر الطرق هدوءًا؟"
الوعي بهذه التفاصيل الصغيرة قد لا يُرجع من ابتعد، لكنه قادر على إنقاذ من بقي.
والمحبة – في جوهرها – لا تحتاج إلى مظاهر كبيرة…
بل إلى نفسٍ خفيف، وروحٍ حاضرة لا تُرهق.
مرحبًا بك في منطقة التعليقات! كن مهذبًا وابقَ في صلب الموضوع. قم بزيارة الشروط والأحكام الخاصة بنا واستمتع معنا!
لم تتم إضافة أي تعليقات بعد، كن الأول وابدأ المحادثة!