Worx - Worx | Logo
BETA
Worx - الاحتراق الوظيفي: نار صامتة تلتهم الشغف من الداخل

في أحد الصباحات، تنهض من فراشك دون رغبة حقيقية في بدء اليوم. تقف أمام المرآة فلا ترى سوى وجه مرهق، وعينين مطفأتين لا تعكسان أي دافع. تذهب إلى عملك كأنك تؤدي واجبًا عسكريًا لا مفر منه، وتؤدي مهامك بروح ميتة، بالكاد تذكر لماذا اخترت هذا المجال أو لماذا كنت تحبه يومًا ما. في هذه اللحظة، قد تكون قد وصلت — أو بدأت تصل — إلى ما يُعرف بالاحتراق الوظيفي، ذلك الوجع الصامت الذي ينهكك دون أن يراك أحد.

الاحتراق الوظيفي ليس تعبًا عابرًا ولا مجرّد ملل مؤقت، بل هو حالة عميقة من الإنهاك النفسي والعقلي والجسدي، تبدأ خفيفة وتتصاعد تدريجيًا حتى يصبح العمل عبئًا ثقيلًا على روحك لا على جسدك فحسب. إنه تلك المسافة الموحشة بين ما كنت تأمله من عملك وما أصبحت تعيشه الآن. إنه فقدان البوصلة في وسط طريق كنت تظن أنك اخترته بشغف.

في كثير من الأحيان، لا نُدرك أننا نحترق. نتوهّم أن الإجهاد طبيعي، وأن الكل مرهق، فنُكمل السير رغم الإنذار الداخلي. نعتاد على الصمت رغم الصخب الذي يحدث داخلنا. نحن نواصل لأننا نخشى الاعتراف، نخشى أن نظهر "ضعفاء" في بيئات عمل لا تقدّر الإنسان إلا بقدر إنتاجه. نُقنع أنفسنا بأن كل شيء سيتحسن، وأننا فقط بحاجة إلى إجازة قصيرة، لكننا نعود بعدها أكثر إنهاكًا من ذي قبل، لأننا لم نعالج السبب بل تجاهلناه.

ما يجعل الاحتراق الوظيفي أكثر خطورة هو أنه يُحدث دون أن يُرى. لا أحد يلاحظ أنك تنهار من الداخل، لأنك ما زلت تؤدي مهامك، تحضر الاجتماعات، تضحك حين يجب أن تضحك، وتقول "أنا بخير" كلما سُئلت. لكنه ذلك النوع من الألم الذي لا يُكشف بالتحاليل، بل بالصدق مع الذات. تبدأ بفقدان الشغف، ثم تُصاب بالفتور، ثم تدخل في دوامة شعور باللاجدوى، كأنك تسير بلا هدف، تنفذ المهام كآلة، وتنتظر العطلة كمن ينتظر المهرب.

المفارقة أن هذا النوع من الإنهاك لا يصيب الكسالى أو عديمي الطموح، بل يصيب أولئك الذين أحبّوا أعمالهم بصدق. أولئك الذين بذلوا من وقتهم وجهدهم أكثر مما طُلب منهم، والذين لم يعرفوا متى يتوقفون. يصيب الشغوفين، المتفانين، أولئك الذين أرادوا أن يصنعوا فرقًا، لكنهم لم يجدوا من يقدّر أو يفهم أو حتى يلاحظ.

ولأننا في مجتمعات اعتادت تمجيد "النموذج المثالي"، فإن من يعاني من الإرهاق يشعر بالخجل من التعب، كأن عليه أن يبقى قويًا دائمًا. لكن الحقيقة أن الإنسان ليس آلة، وأن الشعور بالتعب لا يعني الفشل، بل يعني ببساطة أنك إنسان. من الطبيعي أن نتعب، أن نحتاج إلى وقت للراحة، إلى التقدير، إلى أن نشعر أن وجودنا لا يُختزل في تقارير وأرقام.

الاحتراق الوظيفي لا يُشفى بالصبر فقط، بل بالمواجهة. بالمصارحة الصادقة مع النفس: "هل ما زال هذا العمل يضيف إلى حياتي؟ هل ما زلت أنا؟ أم أنني أصبحت نسخة مرهقة لا تشبهني؟" تلك الأسئلة ليست سهلة، لكنها ضرورية. لأنها تُضيء الطريق نحو استعادة التوازن، نحو إعادة صياغة علاقتنا بالعمل والحياة. قد يكون الحل في استراحة مؤقتة، وقد يكون في قرار كبير، وقد يكون فقط في إعادة النظر إلى أنفسنا كأولوية، لا كوسيلة.

في النهاية، العمل جزء من الحياة، لا الحياة بأكملها. لا تسمح له أن يبتلعك. لا تنسَ نفسك وسط الأهداف والمشاريع والتقارير. أنت أهم من كل ذلك. ولست مضطرًا أن تحترق لتضيء للآخرين. فالنور الحقيقي لا يصدر عن النار، بل عن التوازن والسلام الداخلي




محادثة

0 تعليقات

مرحبًا بك في منطقة التعليقات! كن مهذبًا وابقَ في صلب الموضوع. قم بزيارة الشروط والأحكام الخاصة بنا واستمتع معنا!

Worx - Worx
لم تتم إضافة أي تعليقات بعد، كن الأول وابدأ المحادثة!

لم تتم إضافة أي تعليقات بعد، كن الأول وابدأ المحادثة!

المهارات في هذه المقالة
Worx © مجتمع ووركس - جميع الحقوق محفوظة
Worx